في عالم الطب النفسي، يُعتبر اضطراب تعدد الشخصيات المعروف علميًا باسم اضطراب الهوية الانفصالية من أكثر الحالات النفسية غرابة وتعقيدًا، حيث يتجاوز هذا الاضطراب المفهوم السائد عن الإنسان ككائن موحّد الهوية والشخصية. ما يُميز هذا الاضطراب هو ظهور شخصيتين أو أكثر داخل الفرد الواحد، تتناوب السيطرة على سلوكه ووعيه وذاكرته، وقد تختلف هذه الشخصيات بشكل كبير من حيث الجنس، والعمر، والمهارات، وحتى الحالة الصحية.
جذور الاضطراب: صدمة الطفولة
تشير الأبحاث النفسية إلى أن السبب الجذري لاضطراب غالبًا ما يكون مرتبطًا بصدمات شديدة في مرحلة الطفولة المبكرة، خصوصًا الإيذاء الجسدي أو الجنسي أو النفسي المتكرر. الطفل الذي يتعرض لهذه الصدمات قد يطوّر آلية دفاعية نفسية تتمثل في "الانفصال" وهي عملية يقوم بها الدماغ لعزل الذكريات أو الأحاسيس المؤلمة عن الوعي الكامل.
مع تكرار هذه الصدمات، يبدأ العقل بتكوين "هويات منفصلة" أو شخصيات بديلة، يُعتقد أنها تظهر لحماية الطفل أو لتحمل الألم النفسي بدلاً من الذات الأصلية. ومع مرور الوقت، تبدأ هذه الشخصيات في التطور والاستقلال تدريجيًا، وقد تكتسب أسماء وسلوكيات وذكريات مختلفة تمامًا.
خصائص اضطراب DID
الأشخاص المصابون باضطراب تعدد الشخصيات قد يظهرون اختلافات حادة في:
الذاكرة: بعض الشخصيات لا تتذكر ما حدث عندما كانت شخصية أخرى مسيطرة.
المهارات: إحدى الشخصيات قد تمتلك مهارات لا تملكها الأخرى (مثل العزف، أو التحدث بلغة معينة).
الحالة الصحية: في حالات نادرة، تختلف الحالات الجسدية بين الشخصيات، مثل ضغط الدم، أو حتى وجود أمراض مزمنة.
رغبت في التحدث عن عدة حالات قرأت عنها، وتعمقت في تفاصيلها لأنها جذبت اهتمامي بشدة
الحالة الأولى: العمى المتقطع بين الشخصيات
تم توثيق حالة لامرأة ألمانية فقدت بصرها نتيجة لحادث، وأصيبت لاحقًا بهذا الأضطراب . الغريب في حالتها أن بعض شخصياتها كانت قادرة على الرؤية بشكل طبيعي! الدراسات التي أجريت لها أظهرت أن المناطق البصرية في الدماغ كانت تنشط فقط عند ظهور تلك الشخصيات، بينما تتوقف عن العمل عند ظهور الشخصية الأساسية المصابة بالعمى.
تفسيرات هذه الظاهرة ما زالت محل جدل علمي، ولكنها تُظهر مدى قدرة الدماغ البشري على تعديل وظائفه بناءً على الحالة النفسية والعصبية.
الحالة الثانية: السكري الانتقائي
في دراسة نُشرت في مجلة الطب النفسي، تم توثيق حالة لامرأة تعاني من اضطراب تعدد الشخصيات، حيث كانت فقط إحدى شخصياتها مصابة بداء السكري وتحتاج إلى الإنسولين. أما الشخصيات الأخرى فلم تظهر عليها أية أعراض أو تغيرات في مستويات السكر في الدم.
هذه الحالة تطرح تساؤلات حقيقية حول مدى التأثير العميق للحالة النفسية على الوظائف البيولوجية في الجسم، وتجعل من الصعب حصر هذا الاضطراب في كونه مجرد ظاهرة سلوكية أو نفسية بحتة.
الحالة الثالثة: اللغة التي لم تُتعلم
في حالات موثقة أخرى، ظهرت شخصيات تتحدث لغات أجنبية لم يسبق للشخص أن تعلمها رسميًا. في بعض الأحيان، تكون هذه الشخصية قادرة على التواصل بلغة أجنبية بطلاقة مدهشة، ما أثار جدلاً بين المختصين، هل يمكن للدماغ أن يخزن كلمات سمعها في مراحل الطفولة المبكرة بشكل غير واعٍ؟ أم أن هناك آليات عقلية أعمق تسمح باستحضار أنماط لغوية دون تدريب تقليدي؟
العديد من العلماء يرجحون التفسير الأول، معتبرين أن التعرض المبكر للغة، حتى دون فهمها الكامل، يمكن أن يخلق ذاكرة سمعية كامنة تُستخرج لاحقًا تحت ظروف نفسية معينة.
التحديات في التشخيص
DID اضطراب
يُعد من أصعب الاضطرابات في التشخيص. كثير من الحالات تُشخص خطأً كفصام أو اضطراب ثنائي القطب ، لأن الأعراض قد تتداخل، مثل الهلاوس أو التغيرات المزاجية الشديدة. لكن الفرق الجوهري هو أن في هناك شخصيات متعددة تتعاقب، وكل منها تملك إدراكها وسلوكها الخاص.
العلاج غالبًا ما يكون طويل الأمد، ويعتمد على العلاج النفسي المتخصص (خصوصًا العلاج بالحديث والعلاج السلوكي المعرفي)، مع هدف دمج الشخصيات في هوية واحدة مستقرة.
هل العلم يملك الإجابة الكاملة؟
رغم التقدم في تصوير الدماغ وتقنيات الرنين المغناطيسي الوظيفي ، لا يزال هذا الاضطراب يحمل غموضًا كبيرًا. فهو يقف في نقطة تقاطع بين علم النفس، والطب العصبي، والسلوك البشري، والروحانيات أحيانًا. لا يوجد دليل علمي يثبت وجود "أرواح متعددة" في الجسد، ولكن الأدلة العصبية والسلوكية تشير بوضوح إلى أن الدماغ قادر على خلق "هويات" مختلفة تتحكم بالوعي بالتناوب.
خلاصة
اضطراب تعدد الشخصيات ليس ظاهرة خيالية أو درامية فقط كما يصوره الإعلام. بل هو اضطراب نفسي معقّد، يرتبط بتجارب مؤلمة في الطفولة، ويُظهر مرونة مذهلة للعقل البشري في التأقلم والبقاء.
الحالات الغريبة المذكورة في هذا المقال ليست دليلًا على قوى خارقة، بل على مدى تعقيد الدماغ البشري وقدرته على التحكم بوظائف الجسد والعقل بشكل يتجاوز الفهم السطحي.
كتبت هذا المقال بعد أن قرأت عن عدد من هذه الحالات قبل مدة، ووجدت نفسي مأخوذة بما فيها من تفاصيل لا تُصدق. لذلك قررت أن أشارككم هذه المعلومات، لأني شعرت بفضول عميق ودهشة دفعتني للبحث أكثر، وربما تشاركونني هذا الفضول
فهم النفس البشرية ليس مجرد علم، بل رحلة طويلة لفهم من نكون حقًا.
فعلاً شيء مثير للاهتمام خاصة كون ان كل شخصية يمكن ان تمتلك مرض مزمن والاخرى لا واحداهن عمياء والاخرى ليست كذلك ف هنا نطرح سؤال هل يمكن علاج الامراض المزمنة واصابات اخرى فقط عن طريق العقل؟
سلم منطوقك، مقال أبهرنيّ وشد كل ذرة في كياني
أنصح بمشاهدة فيلم split، افضل فيلم جسد هذا الاضطراب